الرئيسية الحركات الليبرالية والقومية في اوربا في القرن التاسع عشر – الجزء الاول

الحركات الليبرالية والقومية في اوربا في القرن التاسع عشر – الجزء الاول




مقدمة:
ارتبط انتشار المبادئ الليبرالية والقومية في اوروبا بنتائج الثورة الفرنسية، وبقرارات مؤتمر فينا، فبرزت بعد سنة 1855، على شكل حركات ليبيراليا وقومية أكثر تنظيما ونضجا، في مواجهة الأنظمة السياسية المحافظة، داعية الى وضع حد نهائي لمظاهر الحكم المطلق، والى تطبيق مبداْ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وتوحيد الدول المجزأة، او تحريرها من الاستبداد. وكان توحيد إيطاليا وألمانيا من اهم نتائج هذه الحركات خلال القرن التاسع عشر.
.ا1.المذهب الليبرالي والمبدأ القومي في أوربا من الثورة الفرنسية الى انعقاد مؤتمر فينا
1.1. ارتبط انتشار مبادئ الليبرالية والقومية في اروبا بالثورة الفرنسية وبالحروب النابليونية بالدرجة الأولى.
ظهرت الليبرالية او المذهب الحر لأول مرة في إنكلترا في اخر القرن التاسع عشر، بحيث استعمل في الاقتصاد للدلالة على المذهب القائم على حرية المنافسة وعدو تدخل الدولة في توجيه الاقتصاد؛ بينما اصطلح به في السياسة على المذهب الذي تأسس على الحريات السياسية والفردية....
كانت المبادئ الليبرالية منذ مدة طويلة منحصرة في أفكار الادباء و الفنانين و الفلاسفة و المفكرين و خاصة روسو و مونتسكيو و فولتير. لكن الثورة الفرنسية 1789 اضفت عليها صفة المبادئ السياسة، بعد ان ضمنتها في اعلان حقوق الانسان و المواطن 26 غشت 1789، الذي نص على المساواة بين الناس، واكد الحقوق الطبيعية للإنسان التي لا يمكن التنازل عنها وهي الحرية الملكية و الامن ومقاومة الظلم، ونادى بمبدأ سيادة الامة و فصل السلط. وصيغت هذه الحقوق في الدستور الفرنسي لسنة 1791، فتحولت المبادئ الليبرالية بذلك الى قواعد قانونية وبرنامج سياسي للبورجوازية و أيديولوجيا استخدمتها سلاحا في تقويض أسس بناء النظام القديم في فرنسا وخارجها تحت شعار " الحرية و المساواة و الاخاء"، فظهرت في اروبا حركات تطالب بحق اللجوء الى استفتاء الشعوب في شأن الانضمام الى فرنسا.
غزا نابليون (1799—1815) اوربا باسم مبادئ الثورة الفرنسية، فلقي تجاوبا كبيرا من طرف الشعوب المتعطشة للحرية، فشاركت بالمال و الذخيرة و الرجال في بسط النفوذ الفرنسي على اوربا.
وعمد نابليون الى تقويض ركائز النظام الفيودالي و إعادة بناء اوربا على أسس أفكار الثورة الفرنسية، فاستصدر دساتير مشابهة للدستور الفرنسي كفلت الحقوق المدنية و السياسية لشعوبها، و طبق القوانين الفرنسية، فقوى لديها رفض كل اشكال الظلم و الحكم الأجنبي و خلق لديها شعورا متناميا بذاتيتها و كيانها. و تعزز هذا الشعور بإلغاء الحواجز الجمركية، وبخلق قوميات متحررة، تدين بالمبادئ و الأفكار التي جاءت بها الثورة الفرنسية، انسياقا مع فكرة "المواطنة العالمية" التي دان بها نا بليون. وادت هذه الإصلاحات الى نمو العلاقات الرأسمالية و الى تزايد أهمية البورجوازية المتوسطة في المجتمع.
الا ان السياسة الفعلية لنابليون تجاه الشعوب الاروبية كانت متعارضة مع تلك الشعارات و المبادئ المثالية، و مع مبدا احترام القوميات و تحرير الشعوب و حقها في تقرير مصائرها. فاتخذ مبادئ الثورة الفرنسية قناعا أيديولوجيا، و مطية لتكريس السيطرة الفرنسية على اوربا، وتعزيز مصالح البورجوازية الفرنسية وهيمنتها على ثمار النشاط الاقتصادي. واستخف نابليون بحقوق الشعوب، وعين افراد عائلته ملوكا على البلدان التي سيطر عليها بدون اخذ راي أهلها، ونكل بالشعوب التي رفضت الاحتلال الفرنسي و تعمد اذلالها (اسبانيا و المانيا).
وظهر تيار يدعو الى فك الارتباط مع فكرة "المواطنة العالمية" والى تقوية الروح "الوطنية" باعتبارها شكلا جنينيا للقومية (مثال فيختة في المانيا). وقد نتج عن كل ذلك ان أصبحت كل امة تشعر بخصوصياتها القومية المختلفة عن باقي الأمم. وكان ذلك مبعثا لتنامي الشعور القومي، و الانضمام الى جانب ألد أعداء الليبرالية و القومية ضراوة، وهي النمسا وبروسيا وروسيا، وذلك لطرد المحتلين الفرنسين.

1.2. جاءت مقررات مؤتمر فيينا متعرضة مع مبادئ القومية و الليبرالية:
عقدت الدول المنتصرة على نابوليون بونابرت مؤتمر فيينا في ما بين نونبر 1814 و يونيو 1815، كانت الهيمنة للدول الأربعة الكبرى و هي بريطانيا و النمسا و روسيا و بروسيا. وهيمنت شخصية المستشار النمساوي ميترنيخ على اشغال المؤتمر، الذي كانت مقرراته حربا على الأفكار التحررية و المطامح القومية للشعوب.
وارتكزت مقررات هذا المؤتمر على مبدأين اساسين: التوازن الدولي، و الشرعية.
--- التوازن الدولي:
 ويعني خلق توازن في قوى الدول الكبرى حتى لا يؤدي تفوق بعضها على بعض الى بسط السيطرة
على اروبا على غرار ما فعلت فرنسا على عهد نابليون.
لكن عند تطبيق هذا المبدأ حرص المؤتمر على توزيع الاسلاب بين الأربعة الكبار المنتصرين(النمسا، روسيا، بروسيا، و بريطانيا)، معتمدا فقط على المساحة و الموارد و السكان، كمعايير للتوازن، مستبعدا نهائيا إرادة الشعوب و حقوقها القومية، و متجاهلا تلك الروابط الروحية التي تجمع امة ما تتشبث بمبدأ سيادتها في نطاق حدودها الطبيعية. أي تأسيس دولة خاصة بها.
 --الشرعية:
 أي ارجاع الملوك و الامراء الذين اقصوا عن الحكم منذ سنة 1792 على أيام الثورة و نابليون الى عروشهم، اجبار شعوبهم على الخنوع لسلطتهم، وتعزيز أنظمة الحكم المطلق، والعمل لأجل القضاء على ما له صلة بالثورة الفرنسية من أفكار و دساتير و مؤسسات.
ولكي تضمن الدول المحافظة دوام هذا النظام الجديد الذي و ضعته في مؤتمر فيينا، عقدت روسيا و النمسا وبروسيا "الحلف المقدس" 26 شتنبر 1815، لمناهضة الحركات القومية و الليبرالية وللتدخل للقضاء عليها أينما ظهرت. كما عقدت الحلف الرباعي 20 نونبر 1815 الذي ضم علاوة على الدول الثلاث المذكورة، إنكلترا. وكان موجها ضد فرنسا، الا انه بعد انضمام هذه الأخيرة اليه تحول الى الية لمناهضة الحركات التحررية.
الا ان مبادئ الحرية و القومية كانت قد ترسخت في نفوس الشعوب الاوربية، و أصبحت تشكل أساس ثقافتها و فكرها و تراثها. وتحولت بعد مؤتمر فيينا الى مطلب أساسي للشعوب، اذ لم تعد هذه المبادئ مجرد شعور و أفكار محصورة في النخبة، كما كان الحال من قبل، بل أصبحت فلسفة ونظريات وجهت مسار التاريخ الاروبي خلال القرن التاسع عشر، وتمخضت عن تأسيس جمعيات و تنظيمات سياسية تشبعت بهذه النظريات، واخذت تعمل لإبطال مقررات مؤتمر فيينا و اسقاط رموزه. وبهذا تكون هذه المبادئ تحولت من النظرية الى التطبيق، متخذة طابعين مترابطين:
-حركة ليبرالية:
، انظمت في اطار جمعيات سرية (مثال إيطاليا)، او في حركات انطلقت من الجامعات، وهذه حالة المانيا التي احتفظت بنوع من حرية التعبير. وكانت تسعى الى اصلاح النظام السياسي في البلدان المحافظة، عن طريق المطالبة بتوفير الحرية الفردية، وحرية الصحافة، و حرية التجمع وتكوين الجمعيات؛ وحقوق المواطنين في المشاركة في الإدارة وفي سن القوانين عن طريق المؤسسات التمثيلية؛ و الحصول على ان تكون هذه الحريات، وهذه القوانين مكرسة بواسطة دساتير تقيد، و تحد من سلطات الحكام تجاه الافراد و الامة. وقدمت هذه المطالب على انها الشرط الأساسي و الضروري لتقدم البشرية.
-حركة قومية:
، وكانت تشكل تهديدا مباشرا للوضع القائم في اوربا، لأنها كانت تناهض الكيفية التي اعيد بها و ضع الخريطة السياسية لاروبا. وكانت احتجاجات الشعوب تستند في ذلك الى الاختلافات الموجودة بين مختلف مناطق اروبا من حيث اللغة و الدين و العادات و التقاليد و الذكريات التاريخية و المشاعر وأساليب التفكير... فتاسست بناءا على ذلك، نظريات ذهبت الى ان الجماعات البشرية المرتبطة بهذه الروابط او ببعضها (اللغة فيما يخص الالمانين)، تشكل امة. واستندت على البنذ الثالث من اعلان حقوق الانسان و المواطن الذي نص على ان "مبدأ كل سيادة يكمن في الامة، ولا يمكن لأي هيئة او فرد ان يمارس سلطة لا تنبثق صراحة منها"، فأكدت على ان من حق الأمم التي تستوفي الشروط المذكورة ان تقرر مصيرها بنفسها، و تكون دولة ذات حدود طبيعية متطابقة مع الامتداد الجغرافي للحيز الترابي الذي تستوطنه. ومن هنا فانه لا يحق للدول الأخرى ان تفرض سيطرتها على ارض او شعوب تعتبر اجنبية عنها مهما كانت هذه الشعوب صغيرة، وبان تجزئة الخريطة السياسية تصير غير مقبولة عندما يفرض هذا التجزئ على أناس ينتمون الى امة واحدة ان يعيشوا داخل دول مختلفة عنهم بدون إرادة منهم. فالأمر يتعلق هنا بالوعي بمطابقة الدولة مع الامة، الذي هو احد اركان مبدا حق الشعوب في تقرير مصيرها.
وبالرغم من الاختلافات التي برزت حول مقومات الامة و شروط القومية، فان الحركات القومية الاوربية التقت جميعها في معارضة التقسيمات الإقليمية التي أحدثها مؤتمر فيينا، وفي عزمها على النضال لإسقاط النظام الأوربي الجديد الذي وضعه الأقوياء وفرض على الضعفاء الخضوع له. وهذا ما أدى الى وقوع صراع حاد بين المحافظين  المتشبثين بالنظم الفيودالية و مقررات مؤتمر فيينا من جهة، و الليبراليين و ممثلي الحركات القومية المدعومين من البورجوازية التي كانت تناضل من اجل تحطيم القيود الفيودالية و إقرار الحرية و تحقيق الاستقلال و الوحدة، لفسح المجال امام التطور الرأسمالي، من جهة أخرى.
لذا فان الحركة الليبرالية القائمة على أساس الحرية هي التي اوجدت المذهب الفكري و السياسي للحريات القومية. وقد انصهرت الحركتان في خضم الكفاح الذي جمعهما ضد عدوهما المشترك، فظهرت الحرية و الاستقلال و الوحدة ملتحمة في روح و احدة، طبعت تاريخ اوربا في القرن التاسع عشر.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الصفحات

يتم التشغيل بواسطة Blogger.